فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فَمَنْ خَسِرَ نَفْسَهُ بِالتَّقْلِيدِ لَا يَنْظُرُ وَلَا يَسْتَدِلُّ حَتَّى يَهْتَدِيَ إِلَى الْإِيمَانِ، وَمَنْ خَسِرَ نَفْسَهُ بِوَهْنِ الْإِرَادَةِ قَلَّمَا يَنْظُرُ وَيَسْتَدِلُّ أَيْضًا، فَإِنْ هُوَ نَظَرَ وَظَهَرَ لَهُ الْحَقُّ بِمَا قَامَ مِنَ الْبُرْهَانِ عَلَيْهِ قَعَدَ بَعْدَ ضَعْفِ الْإِرَادَةِ عَنِ احْتِمَالِ لَوْمِ اللَّائِمِينَ، وَاحْتِقَارِ الْأَهْلِ وَالْمُعَاشِرِينَ، لِمَنْ تَرَكَ دِينَ آبَائِهِ وَأَجْدَادِهِ، وَصَبَا إِلَى حِزْبِ أَعْدَائِهِمْ وَأَعْدَائِهِ. هَذَا مَا يُقَالُ فِي مِثْلِ حَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي عَهْدِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ. وَإِنَّ ضَعْفَ الْإِرَادَةِ لَيَصُدُّ صَاحِبَهُ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ عَنِ الْوَاجِبَاتِ وَسَائِرِ الْأَعْمَالِ الَّتِي لابد فِيهَا مِنَ احْتِمَالِ مَشَقَّةٍ بَدَنِيَّةٍ أَوْ نَفْسِيَّةٍ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ أَعْمَالِ الْإِيمَانِ وَمَصَالِحِ الْأُمَّةِ وَالْأَوْطَانِ، وَلَوْ بَحَثْتَ عَنْ خُسْرَانِ الْأَفْرَادِ الْمُتَعَلِّمِينَ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ الْحُقُوقَ وَالْوَاجِبَاتِ لِكَرَامَةِ أَنْفُسِهِمْ، وَخُسْرَانِ الْجَمَاعَاتِ وَالْأُمَمِ الَّتِي تُولِي زَعَامَتَهَا أَمْثَالَ هَؤُلَاءِ الْأَفْرَادِ لِاسْتِقْلَالِهَا وَصَلَاحِ أَمْرِهَا لَرَأَيْتَ سَبَبَ هَذَا وَذَاكَ وَهَنَ الْعَزِيمَةِ وَذَبْذَبَةِ الْإِرَادَةِ، فَالْفَوْزُ وَالْفَلَاحُ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْعِلْمِ الصَّحِيحِ وَالْعَزِيمَةِ الْحَافِزَةِ إِلَى الْعَمَلِ بِالْعِلْمِ، فَمَنْ خَسِرَ إِحْدَى الْفَضِيلَتَيْنِ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ خَسِرَ نَفْسَهُ سَوَاءً كَانَ فَرْدًا، أَوْ أُمَّةً، فَمَا بَالُ مَنْ خَسِرَهُمَا كِلْتَيْهِمَا وَالْعِيَاذُ بِاللهِ تَعَالَى وَقَدْ لَمَّحَ الزَّمَخْشَرِيُّ إِلَى خُسْرَانِ النَّفْسِ فِي الْآخِرَةِ فَأَوْرَدَ عَلَى الْآيَةِ إِشْكَالًا فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ. وَأَجَابَ عَنْهُ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُتَكَلِّمِينَ جَوَابًا فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ. قَالَ فإن قلت: كَيْفَ جَعَلَ عَدَمَ إِيمَانِهِمْ مُسَبَّبًا عَنْ خُسْرَانِهِمْ وَالْأَمْرُ عَلَى الْعَكْسِ؟ قلت: مَعْنَاهُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي عِلْمِ اللهِ لِاخْتِيَارِهِمُ الْكُفْرَ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ}.
كأن الحق يعلَّم رسوله السؤال والجواب؛ حتى يتعلم الناس من خلال ذلك أن كُلَّ المُلْك لله؛ لأنهم مهما بحثوا عن مالك الكون فلن يجدوا إلا الله، حتى المكذبين منهم قال الحق عنهم: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض وَسَخَّرَ الشمس والقمر لَيَقُولُنَّ الله فأنى يُؤْفَكُونَ} [العنكبوت: 61].
وعلى الرغم من شركهم بالله لا يقدرون إلا على الإقرار بأن الله هو خالق كل شيء؛ لأن الإنسان قد يغتر بما لذاته من اختيار، لكن عندما ينظر لما يقع على ذاته من اضطرار فهو يعترف فورًا على الإيمان. وقد يختار الإنسان أشياء لكنَّ هناك أحداثًا تقع عليه لا اختيار له فيها وذلك لينبه الحق خلقه أنه فعال لما يريد وأنه يحكم هذا الكون وأن الاختيار ما كان إلاّ ليختبر الإنسان نفسه باتباع تكاليف الله.
والأحداث ثلاثة: حدث يقع عليك، وحدث يقع فيك، وحدث يقع منك. وما يقع عليك ليس لك فيه اختيار، وما يقع فيك لا اختيار لك فيه، ولا يبقى لك إلا ثلث الأحداث وهو ما يقع منك. وأنت محكوم في ذلك بقوسين لا اختيار لك فيهما: قوس الميلاد وقوس الموت، إذن فالأمر كله لله.
ويطمئن الحق خلقه قائلًا: {كَتَبَ على نَفْسِهِ الرحمة} وهو قول ليُطَمِئَن به الحقُّ عباده حتى لا يظن الناس أن الله يعاقبهم دون حساب؛ لأنه الحليم ذو الفضل وهو القائل: {قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ} [يونس: 58].
ويعفو سبحانه عن الكثير، وباب رحمته وفضله مفتوح ويفسح التوبة لكل عاصٍ. ومن فضل الله أنه جعل بعضًا من الكفار يقفون في بداية الإسلام ضد المسلمين ثم يكونون من بعد ذلك سيوفًا للإسلام، وسبحانه الرحيم الذي يجمعنا للحساب يوم القيامة الذي لا ريب فيه ولا شك، ونسير جميعًا مدفوعين إلى ذلك اليوم ويأتي الكافر على رغم أنفه، والمؤمن يتيقن رحمة الله وفضله ويفرح بلقاء ربه.
والكافر- والعياذ بالله- قد خسر نفسه بعمله مصداقا لقوله الحق: {الذين خسروا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} وخسران النفس مترتب على عدم الإيمان؛ لأننا لو نظرنا إلى الغايات وإلى الوسائل لوجدنا أن الوسيلة تأتي قبل الغاية، ولكن في التحضير العملي الغاية تتضح قبل الوسيلة؛ فالذي يستذكر إنما يستحضر في ذهنه الغاية وهي النجاح، فيبذل الجهد لينجح؛ لأننا نعلم أن كل شرط هو واقع بين أمرين، بين جواب دافع، وجواب واقع؛ فالنجاح دافع للمذاكرة، والمذاكرة تجعل النجاح واقعًا، ويقول ابن الرومي:
ألا مَنْ يُرِيني غايتي قَبْلَ مَذْهبي ** ومِنْ أين والغايات بعد المذاهبِ؟

وهذا القول منه غير سديد؛ لأن الإنسان عليه أن يتنبه إلى الغاية وأن يتعرف على الوسيلة التي توصله إلى الغاية، فإذا كانت الغاية أن يذهب الإنسان إلى الله، والوسيلة هي المنهج، فلماذا الحيرة إذن؟ وهكذا نعلم أن الذين لم يؤمنوا قد خسروا أنفسهم لأنهم لم يميزوا الغاية الدافعة وهي الذهاب إلى الله والنزول على حكمه، عن الغاية الواقعة وهي الوسيلة، وسبحانه قد يسرها لعباده إذ قد أتى لهم بالمنهج الذي يسيرون عليه. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سلمان في قوله: {كتب على نفسه الرحمة} قال: إنا نجده في التوراة عطيفتين، أن الله خلق السموات والأرض ثم جعل مائة رحمة قبل أن يخلق الخلق، ثم خلق الخلق فوضع بينهم واحدة وأمسك عنده تسعًا وتسعين رحمة، فيها يتراحمون، وبها يتعاطفون، وبها يتباذلون، وبها يتزاورون، وبها تحن الناقة، وبها تنتج البقرة، وبها تيعر الشاة، وبها تتابع الطير، وبها تتابع الحيتان في البحر، فإذا كان يوم القيامة جمع تلك الرحمة إلى ما عنده، ورحمته أفضل وأوسع.
وأخرج أحمد ومسلم والبيهقي في الأسماء والصفات عن سلمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خلق الله يوم خلق السموات والأرض مائة رحمة، منها رحمة يتراحم بها الخلق وتسع وتسعون ليوم القيامة، فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة».
وأخرج عبد الرزاق والفريابي وابن أبي شيبة والبخاري ومسلم وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما قضى الله الخلق كتب كتابًا فوضعه عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي».
وأخرج الترمذي وصححه وابن ماجة وابن مردويه والبيهقي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما خلق الله الخلق كتب كتابًا بيده على نفسه: إن رحمتي تغلب غضبي».
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا فرغ الله من القضاء بين الخلق أخرج كتابًا من تحت العرش: إن رحمتي سبقت غضبي وأنا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة أو قبضتين فيخرج من النار خلق كثير لم يعلموا خيرًا: مكتوب بين أعينهم عتقاء الله».
وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أن الله كتب كتابًا بيده لنفسه قبل أن يخلق السموات والأرض فوضعه تحت عرشه، فيه: رحتمي سبقت غضبي».
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن طاوس. أن الله لما خلق الخلق لم يعطف شيء منه على شيء حتى خلق مائة رحمة، فوضع بينهم رحمة واحدة، فعطف بعض الخلق على بعض.
وأخرج ابن جرير عن عكرمة حسبته أسنده قال: إذا فرغ الله من القضاء بين خلقه، أخرج كتابًا من تحت العرض فيه: إن رحمتي سبقت غضبي، وأنا أرحم الراحمين.
قال: فيخرج من النار مثل أهل الجنة، أو قال مثلًا أهل الجنة.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ عن عبد الله بن عمرو قال: إن لله مائة رحمة، فاهبط منها رحمة واحدة إلى أهل الدنيا يتراحم بها الجن، والإنس، وطائر السماء، وحيتان الماء، ودواب الأرض وهوامها، وما بين الهواء، واختزن عنده تسعًا وتسعين رحمة، حتى إذا كان يوم القيامة اختلج الرحمة التي كان أهبطها إلى أهل الدنيا، فحواها إلى ما عنده فجعلها في قلوب أهل الجنة وعلى أهل الجنة.
وأخرج ابن جرير عن أبي المخازق زهير بن سالم قال: قال عمر لكعب: ما أول شيء ابتدأه الله من خلقه؟ فقال كعب: كتب الله كتابًا لم يكتبه بقلم ولا مداد، ولكن كتب بأصبعه يتلوها الزبرجد واللؤلؤ والياقوت: أنا الله لا إله إلا أنا سبقت رحمتي غضبي.
وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب حسن الظن بالله عن أبي قتادة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله للملائكة: ألا أحدثكم عن عبدين من بني إسرائيل؟ أما أحدهما فيرى بنو إسرائيل أنه أفضلهما في الدين والعلم والخلق، والآخر أنه مسرف على نفسه. فذكر عند صاحبه فقال: لن يغفر الله له. فقال ألم يعلم أني أرحم الراحمين، ألم يعلم رحمتي سبقت غضبي وإني أوجبت لهذا العذاب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلا تألوا على الله».
وأخرج ابن أبي شيبة وابن ماجة عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أن الله خلق يوم خلق السموات والأرض مائة رحمة، فجعل في الأرض منها رحمة فيها تعطف الوالدة على ولدها، والبهائم بعضها على بعض، وأخر تسعًا وتسعين إلى يوم القيامة، فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة مائة رحمة».
وأخرج مسلم وابن مردويه عن سلمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله خلق يوم خلق السموات والأرض مائة رحمة، كل رحمة طباق ما بين السموات والأرض، فجعل منها في الأرض رحمة، فبها تعطف الوالدة على ولدها، والوحش والطير بعضها على بعض، فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة». اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
لِمَنْ خَبَرٌ مقدَّمٌ واجبُ التقديم، لاشْتِمَالهِ على مَا لهُ صَدْرُ الكلام، فإنَّ مَنْ استفهامية والمبتدأ ما وهي بمعنى الذي، والمعنى: لمن اسْتَقَرَّ الذي في السموات.
وقوله: {قُلْ للَّهِ} قيل: إنَّمَا أمَرَه أن يجيب، وإن كان المقصود أن يُجِيبَ غيره؛ ليكون أوَّل من بَادرَ بالاعتراف بذلك.
وقيل: لمَّا سِألَهُمْ كأنَّهم قالوا: لمن هو؟ فقال اللَّهُ: {قُلْ للَّهِ}، ذكره الجُرْجَانِيُّ فعلى هذا قوله: {قُلْ للِّه} جوابٌ للسؤال المُضْمَرِ الصَّادِرِ من جهة الكُفَّارِ، وهذا بَعِيدث؛ لأنهم لم يكونوا يَشكُّون في أنَّهُ للَّهِ، وإنما هذا سؤالُ تَبْكِيتٍ وتَوبِيخٍ، ولو أجابو الم يَسَمْهُمْ أن يُجيبوا إلاَّ بذلك.
وقال ابن الخَطيبِ: إنَّ اللَّهَ- تبارك وتعالى- أمَرَهُ بالسُّؤالِ أوَّلًا، ثمَّ بالجواب ثانيًا، وهذا إنَّما يَحْسُنُ في المَوْضِعِ الذي يكونُ جوابُهُ قد بَلَغَ في الظهور إلى حيث لا يقدر على إنكاره مُنْكِرٌ، ولمَّا كانت آثار الحدوث والإمْكان ظاهرة في ذَوَاتِ جميع الأجْسَامِ، وفي جميع صفاتها، ولا جَرَمَ كان الاعْتِرَافُ بأنها بأسرها للَّه تعالى، ومِلْكٌ له، ومَحَلُّ تَصَرُّفِهِ وقُدرَتِهِ، لا جَرَمَ أمره بالسُّؤالِ أوّلًا، ثم بالجواب ثانيًا لِيَدُلَّ ذلك على الإقْرَارَ بهذا المعنى ممَّا لا سبيل إلى دفعه ألْبَتَّةَ، كما قال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله} [لقمان: 25] وقوله: {اللَّه} خبر مبتدأ محذوف أي: هو اللَّهُ.
قوله: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ} أي: قَضَى وأوْجَبَ إيجَابَ تَفَضُّلٍ، لا تضمَّن من معنى القَسَمِ، وعلى هذا فلا توقُّف على قوله: {الرَّحْمَة}.
وقال الزجاج: إن الجملة في قوله: {ليجمعنَّكم} في محل نصب على أنها بَدَلٌ من الرحمةِ؛ لأنه فسَّرَ قوله تعالى: {ليجمعنَّكم} بأنه أمْهَلَكم وأمَدَّ لكم في العُمْرِ والرِّزْقِ مع كُفْركم، فهو تفسيرٌ للرحمة.
وقد ذكر الفَرَّاء هذين الوجهين: أعني أن الجملة تَمَّتْ عن قوله تعالى: {الرَّحْمَة}، أو أنَّ {ليجمعنَّكُمْ} بَدَلٌ منها، فقال: إن شئت جعلت الرَّحْمَةَ غَايَة الكلام، ثم اسْتَأنَفْتَ بعدها {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} وإن شئت جَعَلْتَهَا في موضع نصبٍ كما قال: {كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ} [الأنعام: 54] قال شهابُ الدين رحمه الله: واسْتِشْهَادَهُ بهذه الآية الكريمة حَسَنٌ جدًا.
ورَدَّ ابن عطيَّة هذا بأنه يَلْزَمُ دخول نون التوكيد في الإيجاب قال: وإنما تدخل على الأمْر والنهي، وجواب القَسَمِ، ورد أبو حيان حصر ابن عطيَّة ورود نون التوكيد فيما ذكر صحيحٌ، وردَّ كون {ليجمعنَّكم} بدلًا من الرحمة بِوَجْهٍ آخر، وهو أنَّ {ليجمعنكم} جوابُ قَسَم، وجملةُ الجوابِ وَحْدَهَا لا موضوع لها من الإعراب، إنما يُحْكمُ على مَوْضع جملتي القَّسِمِ والجواب بمحلِّ الإعراب.
قال شهابُ الدين: وقد خلط مَكِّي المَذْهَبَيْنِ، وجعلهما مذهبًا واحدًا، فقال: {لَيَجْمَعنَّكُمْ} في موضع نصبٍ على البَدَلِ من {الرحمة} واللام لام القَسَمِ، فهي جواب {كَتَبَ}؛ أنه بمعنى: أوْجَبَ ذلك على نَفْسِهِ، ففيه معنى القَسَم، وقد يظهر جوابٌ عما أوْرَدَهُ أبُو حيَّانَ على غير مكي، وذلك أنهم جَعَلُوا {لَيَجْمَعَنَّكُم} بَدَلًا من الرَّحْمَةِ- يعني هي وقَسِيمها المحذوف، واستغنوا عن ذك القَسَمِ، لاسيما وهو غير مذكور.
وأمَّا مكِّي فلا يظهر هذا جوابًا له، لأنَّه نَصَّ على أنَّهُ جواب لـ {كتب}، فمن حَيْثُ جَعَله جَوَابًا لـ {كَتَبَ} لا مَحَلَّ له، ومن حَيْثُ جعله بَدَلًا كان مَحَلُّه النَّصْبَ، فَتَنَافَيَا، والذي ينبغي في هذه الآيةِ الكريمةِ أنْ يكون الوَقْفُ عند قوله: {الرحمة}.
وقوله: {ليجمعنَّكم} جوابُ قَسَم محذوف أي: واللَّهِ ليجمعنَّكُم، والجملة القَسِمِيَّةُ لا مَحَلَّ لها بما قبلها من حَيْثُ الإعْرَاب، وإنْ تعلَّقت به من حَيْثُ المعنى.
وإلى على بابها، أي: ليجمعنَّكم منتهين إلى يوم القيامة.
وقيل: هي بمعنى اللاَّم كقوله تعالى: {إِنَّكَ جَامِعُ الناس لِيَوْمٍ} [آل عمران: 9] وقيل: بمعنى في أي: لَيَجمعنَّكُمْ في يوم القيامة.
وقيل: هي زائدة، أي: ليجمعنكم يوم القيمامة، وقد يشهد له قراءة من قرأ {تهوي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم: 37] بفتح الواو إلاَّ أنه لا ضرورةَ هنا إلى ذلك.
وتقدَّمَ الكلامُ في {لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى} في أول البقرة [البقرة: 2] والجملة حالٌ من يوم والضمير في فيه يَعُودُ على اليوم.
وقيل: يَعُودُ على الجَمْعِ المدلول عليه بالفَعْلِ؛ لأنه رَدٌّ على منكري القيامة.
قوله: {الَّذِينَ خَسِرُوا} فيه ستَّة أوجه:
أحدهما: أنه مَنْصُوبٌ بإضمار أذُمُّ ن وقَدَّره الزَّمخشري بأريد، وليس بِظَاهرٍ.
الثاني: أنه مبتدأ أخْبِرَ عنه بقوله: {فهم لا يُؤمِنُون}، وزيدت الفاءُ في خبره لِمَا تَضَمَّنَ من معنى الشَّرْطِ، قاله الزجاج، كأنه قيل: مَنْ يَخْسَرْ نَفْسَهُ فهو لا يؤمن.
الثالث: أنه مجرور على أنه نَعْتٌ للمكذِّبين.